تبرير القتل الجماعي- أيديولوجيا العنف في فلسطين وسوريا

قبل أيام معدودة من مغادرة الرئيس الأميركي جو بايدن لمنصبه، كُشف النقاب عن فحوى المحادثة التي دارت بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي، والتي سعى فيها الأخير لتبرير العمليات العسكرية التي أودت بحياة آلاف الفلسطينيين. ووفقًا لما نُشر، قال نتنياهو لبايدن: "عندما زرت إسرائيل عقب الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي بعد حوالي ثمانية أيام، نصحتك بعدم قصف المناطق السكنية بشكل عشوائي". فرد نتنياهو قائلًا: "لكنكم فعلتم ذلك أيضًا. لقد قصفتم برلين وصنعتم قنبلة نووية، مما أسفر عن مقتل الآلاف من الأبرياء، لأنكم اعتقدتم أن ذلك ضروري لتحقيق النصر في الحرب".
تجدر الإشارة إلى أن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لم يعاملوا المدنيين الألمان واليابانيين كتهديدات جوهرية يجب القضاء عليها، بل نظرت إليهم باعتبارهم جزءًا من قوة معادية في زمن الحرب. وقد تم اللجوء إلى العنف بشكل دقيق ومحدد لتحقيق استسلام العدو، وما إن تحقق ذلك، توقف القصف بشكل فوري.
خلال عمليات القصف التي نفذها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، تم التقليل الشديد من قيمة حياة المدنيين الألمان واليابانيين، وهو الأمر الذي سهل تبرير القصف الواسع النطاق لمدنهم. بل إن القادة العسكريين الأميركيين قاموا بـ "تجميع جميع الأشخاص من أصل ياباني" وأكدوا أنه "لا يوجد مدنيون" في اليابان، في محاولة لإضفاء الشرعية على تلك الأعمال.
لم يكن القصف الذي شنّه الحلفاء على ألمانيا مجرد ضرورة حتمية اقتضتها ظروف الحرب، بل تأثر بشكل كبير بالمعتقدات الأيديولوجية المتطرفة حول الحرب الحديثة، بالإضافة إلى الاستهانة بحياة العدو، وهي المفاهيم التي ترسخت في بريطانيا والولايات المتحدة على مدى العقود السابقة.
لم تكن هذه الأفكار مقبولة على نطاق واسع في البداية، لكنها اكتسبت نفوذًا وهيمنة داخل الدوائر السياسية والعسكرية الرئيسية، وهو الأمر الذي أدى، عندما اقترن بضغوط أزمة الحرب، إلى القتل الجماعي للمدنيين من خلال القصف الجوي الممنهج.
وفي الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، أعلنت فصائل المعارضة السورية دخولها إلى مدينة دمشق، العاصمة السورية، لتضع بذلك حدًا لما يزيد على نصف قرن من حكم الدولة المتوحش. يذكر أن الحرب الأهلية السورية، التي اندلعت في عام 2011، قد تسببت في مقتل ما يقرب من 500,000 شخص حتى نهاية حكم بشار الأسد، بالإضافة إلى وجود آلاف المفقودين الذين لم يتم العثور عليهم حتى الآن.
وفي سوريا، قام حزب البعث وأجهزة الأمن ببناء أيديولوجية متطرفة تصوّر الأسد على أنه حامي سوريا، وتعتبر كل أشكال المعارضة تهديدًا وجوديًا. ولم يقتصر الأمر على حماية سوريا والسوريين، بل تم استخدام الصراع مع الكيان الصهيوني كمبرر إضافي لأعمال العنف والتوحش.
لقد سمحت الحرب الأهلية السورية لنظام الأسد بتصوير معارضيه على أنهم يشكلون تهديدًا وجوديًا، ما يبرر استخدام العنف الجماعي من أجل بقاء النظام واستمراره في السلطة. يساعد هذا التأطير بشكل كبير في حشد الدعم لاستخدام العنف من خلال الادعاء المستمر بأن تصرفات النظام ضرورية للحفاظ على النظام القائم وحماية الدولة من الانهيار. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الحكومة السورية جاهدة لتقديم نفسها باعتبارها السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد، وتتجلى هذه السرديات بوضوح في الخطاب الرسمي، وعلى نطاق واسع في معايير الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة للدولة.
لا يزال الوضع الإنساني في سوريا كارثيًا ومأساويًا، حيث يعاني أكثر من نصف السكان من الحاجة الماسة إلى المساعدة الإنسانية العاجلة، ويوجد حاليًا حوالي 6.8 ملايين لاجئ سوري منتشرين في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى وجود حوالي 6.7 ملايين نازح داخل البلاد.
وفي سوريا، تبنى نظام الأسد رواية خاصة به تصور المعارضة على أنها تمثل تهديدًا إرهابيًا، وذلك لتبرير العنف المفرط الذي يمارسه ضد شعبه. غالبًا ما تكون هذه الرؤية "إقصائية" للمجتمع، حيث تُعتبر مجموعات معينة خارجة عن نطاق المجتمع السياسي، ويُنظر إليها على أنها عدو يجب القضاء عليه. وهذا جزء لا يتجزأ من بنية تحتية أيديولوجية أوسع نطاقًا، مكّنت الدولة من الانخراط في أعمال عنف جماعي واسعة النطاق دون أي محاسبة.
تعتمد مبررات القتل الجماعي في كثير من الأحيان على مفاهيم مألوفة، مثل الدفاع عن النفس والأمن القومي، ومعاقبة أولئك الذين يهددون المجتمع. ولا يرى الجناة أن أفعالهم خاطئة من الناحية الأخلاقية أو الإنسانية، بل يعتبرونها إجراءات ضرورية وحتمية لحماية مجتمعهم السياسي والحفاظ على استقراره.
منذ النكبة عام 1948، قدم الفلسطينيون ما يقرب من 150 ألف شهيد، وعانى مئات الآلاف من الإصابات والجروح، فيما خاض ما يقرب من مليون فلسطيني تجربة الاعتقال والاحتجاز في السجون الإسرائيلية. نزح معظم سكان قطاع غزة، البالغ عددهم حوالي 2.4 مليون نسمة، مرات عديدة نتيجة للحروب المتكررة والعمليات العسكرية المستمرة.
لقد انخرطت الدولة الإسرائيلية في أعمال عنف ممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين، واعتبرتهم بمثابة تهديد أمني دائم. وتعمل الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في سياق يطبع العنف ضد الفلسطينيين باسم الحفاظ على الأمن. إن عمليات القتل الجماعي متجذرة بعمق في فهم متطرف وغير معقول للأمن، وتتغذى على رؤى طوباوية كبرى مثل بناء الهيكل أو تحقيق حلم أرض الميعاد.
تم بناء سردية متكاملة لتبرير عمليات القتل الجماعي في فلسطين، وتشمل هذه السردية العناصر التالية:
- تصوير الفلسطينيين كتهديد وجودي لأمن الدولة الإسرائيلية.
- تحميل الفلسطينيين المسؤولية الكاملة عن أفعالهم السابقة، وخاصة العمليات التي يعتبرها الاحتلال "إرهابية".
- حصر الصراع في اللحظة الراهنة أو الجولة الحالية من التصعيد، وتجاهل السياق التاريخي الطويل والتراكمات السابقة.
- إزالة هوية الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم بهدف تقليل التعاطف معهم وتسهيل استهدافهم بالعنف.
- تصوير العنف الموجه ضد الفلسطينيين على أنه ضرورة حتمية للحفاظ على الأمن أو ضمان البقاء.
- تأطير الصراع باعتباره صراعًا صفريًا لا يحتمل أي حلول وسط أو بدائل سلمية.
- تمجيد أفعال الجناة وتقديمها على أنها أعمال دفاع بطولية أو واجب وطني مقدس.
في فلسطين، يتم تأطير الصراع من خلال بنية تحتية أيديولوجية راسخة تنطوي على تصوير الفلسطينيين كتهديد مستمر لأمن الدولة. وهناك أيضًا عنصر أساسي يتمثل في إلقاء اللوم الكامل على الفلسطينيين بسبب أفعالهم السابقة، وتقديم تدميرهم على أنه ضرورة قصوى للأمن والبقاء. هذه العناصر لا تقتصر على مستوى النخبة الحاكمة فحسب، بل تتغلغل في العديد من قطاعات المجتمع، بما في ذلك المؤسسة العسكرية ووسائل الإعلام والأنظمة التعليمية.
هناك قواسم مشتركة واضحة بين الروايات التبريرية لعمليات القتل الجماعي عبر مختلف السياقات التاريخية والجغرافية. يتم استخدام آليات متشابهة، حتى عندما تختلف المبررات الأيديولوجية الظاهرية.
هذه الروايات ليست مجرد مبررات لاحقة يتم اختلاقها بعد وقوع الأحداث، بل لديها قوة سببية حقيقية ومؤثرة في تشجيع العنف وتشكيل مساراته. تنبع قوة هذه السرديات من قدرتها الفائقة على الارتباط الوثيق بالأيديولوجيات والمخاوف والمظالم القائمة في مجتمع معين أو في أوساط فئة معينة من الناس.
إن هذه الروايات ليست حكرًا على أيديولوجية معينة أو فكر محدد، بل إن السياق المحدد والطريقة التي تتقاطع بها الرواية مع المخاوف الأمنية الملحة هي العوامل الحاسمة التي تدفع نحو القتل الجماعي وتبرره.
في كل من فلسطين وسوريا، برر أصحاب السلطة العنف الموجه ضد المدنيين العزل باعتباره ضرورة حتمية للحفاظ على الأمن القومي. عمليات القتل الجماعي تنشأ من تفاعل معقد بين الروايات الأمنية المتطرفة مع الأزمات السياسية العميقة والضغوط الاجتماعية المتزايدة. وهذا يشير بوضوح إلى أن عمليات القتل هذه ليست مجرد نتيجة للكراهية المتأصلة والصراعات العرقية أو الدينية أو صراعات الهوية، ولكنها تنبع في الأساس من كيفية إدراك أصحاب السلطة للتهديدات المحيطة وكيفية تصرفهم لحماية مصالحهم وتأمين استمرار سلطتهم.
هناك دور محوري للنخب السياسية في خلق ونشر الأيديولوجيات المتطرفة التي تغذي العنف. ففي السياقين الإسرائيلي والسوري، لعب السياسيون دورًا حاسمًا في تأطير التهديدات الأمنية وتبرير استخدام العنف المفرط. عمليات القتل الجماعي تتطلب تحالفًا واسع النطاق من الجناة يشمل النخب السياسية الفاعلة، والعاملين في مؤسسات الدولة القمعية، بالإضافة إلى دعم قطاعات واسعة من الشعب.
تستخدم النخب السياسية الأيديولوجيات المتطرفة لتبرير قراراتها بشن عمليات القتل الجماعي، وتستخدم أيضًا نفس الأيديولوجيات لتعبئة الأجهزة الأمنية وقطاعات كبيرة من الجماهير لتنفيذ هذه العمليات.
إن العاملين في المؤسسات الأمنية، على الرغم من أنهم لا يميلون في كثير من الأحيان إلى التوجهات الفكرية العميقة، فإنهم يعملون داخل مؤسسات أمنية تسترشد بمبادئ أمنية متشددة وغير متسامحة. هذه المؤسسات تعمل جاهدة على تشكيل تصوراتهم عن المجموعة المستهدفة، وخلق ضغوط اجتماعية قوية للمشاركة الفعالة في أعمال العنف.
كما أن الجمهور يتقبل في كثير من الأحيان هذه الروايات الأمنية السائدة، إما بسبب قناعة حقيقية بصحتها أو بسبب رغبة دفينة في الامتثال والخضوع للسلطة. هذا القبول العام للرواية الأمنية يساهم بشكل كبير في إضفاء الشرعية على العنف وتمريره دون مقاومة. وحتى لو لم يدعم السكان القتل الجماعي بشكل نشط ومباشر، فإن استسلام الجمهور أو قبوله السلبي للعنف أو الإذعان له يمكن أن يمكّن من المضي قدمًا في تنفيذ هذه العمليات على نطاق واسع. إن القبول العام لرواية مبررة للقتل الجماعي قد يكون كافيًا لمنع ظهور أي معارضة متضافرة أو مقاومة شعبية فعالة.
تلعب السياسة الأمنية، عندما يتم تطرفها من خلال التفسيرات الأيديولوجية المتشددة، دورًا حاسمًا في تمكين عمليات القتل الجماعي وتسهيل تنفيذها. فهي توفر الإطار العام الذي يتم من خلاله تأطير العنف الموجه ضد المدنيين باعتباره مسار عمل ضروري ومشروع. ولا يتعلق الأمر فقط باتخاذ قرار استراتيجي، بل يتعلق أيضًا بكيفية تشكيل هذا القرار وتبريره أيديولوجيًا.
يسلط كتاب "الأيديولوجية والقتل الجماعي" الذي ترجمته مؤخرًا الشبكة العربية للأبحاث والنشر الضوء بشكل كبير على دور "الروايات التبريرية" في جعل عمليات القتل الجماعي تبدو ضرورية وحتمية ومشروعة.
أهم هذه الروايات ما يلي:
- تصوير الضحايا كتهديدات وجودية حقيقية، بغض النظر عن الواقع الفعلي. لقد تم تصوير الفلسطينيين والسوريين على أنهم أعداء خطرون ومتربصون.
- نسب الذنب الكامل إلى الضحايا، مما يوحي بأنهم يستحقون العنف الذي يمارس ضدهم.
- إنكار أي هوية مشتركة بين الجناة والضحايا، مما يتيح نزع الصفة الإنسانية عنهم وتجريدهم من كل الحقوق. إن هذا هو "الآخر" الذي يجب قتله والتخلص منه.
- تقديم العنف باعتباره فضيلة وضرورة حتمية من أجل تحقيق الصالح العام المنشود. لقد صور نظام الأسد أفعاله الوحشية على أنها ضرورية لحماية سوريا من الإرهاب، وصاغ عنفه على أنه دفاع مشروع عن النفس.
- رفض أي بدائل أخرى، وتقديم العنف باعتباره الحل الوحيد الممكن والأكثر فاعلية. تم استخدام هذا الإطار بشكل واسع لرفض المفاوضات والحلول البديلة في كل من فلسطين وسوريا.
- باختصار، يمكن القول إن عمليات القتل الجماعي في فلسطين وسوريا وغيرهما لم تكن قدرًا محتومًا، بل نشأت نتيجة لتفاعل معقد بين الأيديولوجيات المتشددة والأزمات السياسية العميقة وقرارات النخبة الحاكمة والضغوط الاجتماعية المتزايدة. وقد تم تمكين العنف من خلال الروايات التي تصور الضحايا على أنهم يشكلون تهديدًا خطيرًا، وتضفي الشرعية على الأذى الشديد الذي يلحق بالسكان المدنيين الأبرياء. ويؤكد الكتاب في خلاصته أن العنف لا يحدث أبدًا دون أن يعتقد مرتكبوه أنه الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله، بناءً على فهمهم الأيديولوجي المسبق.
ربع قرن من القتل الجماعي
لم يكن العقد الماضي هو الأسوأ في تاريخ المنطقة من حيث عمليات القتل الجماعي، كما تجلى بوضوح في فلسطين وسوريا وليبيا واليمن والسودان، بل يمكن القول وبكل تأكيد إن ما مضى من سنوات القرن الواحد والعشرين، والتي بلغت حتى الآن ربع قرن، هي حقبة القتل الجماعي بامتياز.
نتيجة مباشرة للحرب على الإرهاب التي بدأتها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، لقي ما لا يقل عن 801 ألف شخص مصرعهم بسبب عنف الحرب المباشر، وذلك وفقًا لتقديرات مشروع جامعة براون في عام 2021، ويشمل ذلك القوات المسلحة من جميع أطراف النزاع والمتعاقدين والمدنيين والصحفيين والعاملين في المجال الإنساني.
إلا أن عددًا أكبر من هؤلاء الضحايا قد ماتوا بشكل غير مباشر في هذه الحروب، وذلك بسبب الآثار المتتالية التي خلفتها، مثل سوء التغذية الحاد، والبنية التحتية المتضررة بشكل كبير، والتدهور البيئي المتسارع. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 335 ألف مدني قد قتلوا في أعمال عنف مباشرة ارتكبتها جميع أطراف هذه النزاعات المسلحة. بالإضافة إلى ذلك، نزح ما لا يقل عن 37 مليون شخص بسبب الحروب التي اندلعت بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن، بالإضافة إلى الصومال والفلبين.
وتقوم حكومة الولايات المتحدة حاليًا بتنفيذ أنشطة مكافحة الإرهاب في أكثر من 85 دولة حول العالم، وهو الأمر الذي يوسع نطاق هذه الحرب بشكل كبير ويجعلها عالمية بكل ما تعنيه الكلمة.
بلغت عمليات النزوح الداخلي، أو الحركات القسرية للسكان داخل السودان، بسبب الصراع الدامي الذي اندلع في منتصف أبريل/ نيسان 2023، حوالي 6 ملايين شخص، وهو رقم يتجاوز ما تم تسجيله في السنوات الأربع عشرة السابقة مجتمعة، ويعتبر ثاني أكبر عدد يتم تسجيله على الإطلاق في بلد واحد، بعد أوكرانيا التي سجلت نزوح حوالي 16.9 مليون شخص في عام 2022.
تشير التقديرات الحالية للأمم المتحدة إلى وجود ما يقرب من 4.5 ملايين نازح في اليمن، وقد نزح هؤلاء الأشخاص بسبب الحرب والنزاع المستمر في البلاد لسنوات طويلة. وتشير التقارير الميدانية إلى أن معظم النازحين يعيشون حاليًا في مخيمات أو مراكز إيواء مؤقتة، ويعانون من نقص حاد في الاحتياجات الأساسية من الغذاء والماء والمأوى والرعاية الصحية. كما يواجهون صعوبات جمة في الحصول على الخدمات الأساسية الأخرى، مثل التعليم والعمل.
لا يوجد إجماع دقيق حتى الآن حول الأعداد الحقيقية للقتلى والجرحى في النزاعات المسلحة التي اندلعت في المنطقة على مدار العقد الماضي، ولكن يمكن الإشارة بإيجاز إلى ما ورد في بعض التقارير الدولية بهذا الخصوص:
- تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل ما لا يقل عن 13,000 شخص، وإصابة الآلاف بجروح خطيرة منذ اندلاع القتال العنيف في السودان في شهر أبريل/ نيسان 2023. إلا أن منظمات حقوق الإنسان تؤكد أن العدد الفعلي للقتلى والجرحى أعلى من ذلك بكثير، مشيرة إلى صعوبة الوصول إلى الجثث في مناطق القتال وعدم توثيق الوفيات بشكل كامل بسبب الظروف الأمنية الصعبة.
- تشير تقديرات الأمم المتحدة أيضًا إلى مقتل ما لا يقل عن 10,000 شخص، معظمهم من المدنيين الأبرياء، منذ بداية النزاع المسلح في اليمن في عام 2015. وتفيد المصادر الطبية بأن المستشفيات والمرافق الصحية تعاني من نقص حاد في الإمدادات الطبية والأدوية والموظفين المؤهلين، مما يجعل من الصعب للغاية علاج المصابين وتوثيق الوفيات بشكل دقيق وشفاف.
- تشير بعض التقارير الموثوقة إلى مقتل آلاف المدنيين في ليبيا منذ عام 2011، وذلك بسبب أعمال العنف والنزاعات المسلحة المتكررة التي تشهدها البلاد.
يوضح لنا كتاب "الأيديولوجيا والقتل الجماعي" كيف تعمل البنية التحتية الأيديولوجية على خلق فعل القتل وتمكينه، وذلك من خلال الآليات التالية:
- تشكيل التصورات: التأثير المباشر على كيفية فهم الناس للصراع وأدوارهم فيه، وتوجيههم نحو رؤية محددة تخدم مصالح الجهات الفاعلة.
- حشد الدعم: تشجيع المشاركة الفعالة في العنف من خلال تأطيره كعمل ضروري للدفاع عن النفس أو القيام بواجب وطني مقدس.
- إضفاء الشرعية على العنف: توفير مبرر أخلاقي أو استراتيجي للعنف، مما يجعله مقبولاً ومستساغًا حتى بالنسبة لأولئك الذين ربما لم يكونوا يدعمونه في البداية.
- إنشاء المعايير: إرساء التوقعات الاجتماعية التي تجعل العنف يبدو طبيعيًا أو لا مفر منه، وتشجيع التوافق والقبول العام حوله.
يتجاوز القتل الجماعي التفسيرات البسيطة القائمة على الكراهية الفردية أو الصراعات العرقية أو الدينية أو صراعات الهوية أو الحسابات الاستراتيجية البحتة. إنه في حقيقة الأمر نتيجة تفاعل معقد بين المعتقدات الداخلية الراسخة، والمعايير الاجتماعية السائدة، والضغوط المؤسسية المتزايدة، والروايات التبريرية التي تمكن من ارتكاب القتل الجماعي وتدعمه.